نبات البردى وورق الكتابة

   البردى نبات مائيّ كان يزرع في مصر السفلى في عهد الفراعنة وفي المياه الراكدة التي قلّما يزيد عمقها عن تسعين سم؛ وكانت كلّ شجيرة من شجيراته تنشأ عن جذر يمتدّ في الأرض امتدادًا أفقيًّا، طوله يقرب من أربعة أمتار، تنبثق منه جذورٌ صغيرة، تمتدّ في الطين. أمّا سيقانه فغليظةٌ تنمو وتعلو حتّى يبلغ ارتفاع كلّ منها نحو مترين. ولكلّ ساق رأس يتفرّع فروعًا خضراء متدلّية تشبه الخيوط، وإذا رأيت إحدى الشجيرات وجدتها مثلّثة الشكل.

   وكان هذا النبات لا يُقطع من المستنقعات التي ينبت فيها، بل كان ينزع نزعًا لأنّ الجزء الأسفل من الساق خيرٌ من بقيّته بالنسبة لغلظه. فإذا نزعت سيقان البردى من مستنقعاتها، قُطعت الأجزاء السفليّة منها قطعًا متساوية وربطت حزمًا. أمّا السيقان المتوسّطة الغلظ، فكانت تشدّ بعضها إلى بعض شدًّا وثيقًا لصنع القوارب الخفيفة التي كانت تستخدم لعبور المستنقعات أو لاجتياز النهر.

   ولاستخدام هذا النبات في الكتابة، كان الفراعنة يشقّون البرديّة شرائح يضعونها جنبًا إلى جنب موازيةً بعضها إلى بعض، ثمّ يصفّون فوقها طبقة من الشرائح بوضع عكسيّ ثمّ تلصق الطبقتان بموادّ لاصقة، وبعد ذلك كانت تدقّ لتسويتها ثمّ تُدلّك بقطع من العاج أو الصدف المصقول ليصير سطحها مستويًا ناعم الملمس.

   وكان المصريّون القدماء يستخدمون في الكتابة قلمًا من القصب بعد إعداده بجعل طرفه مدبّبًا، ثمّ استبدلوه فيما بعد بريش الطيور وبأقلام معدنيّة؛ أمّا المداد1 فكان أغلبه ذا لون ثابت.

   وقد ظلّ المصريّون القدماء يزرعون هذا النبات ويصنعون منه لفائفهم دون أن ينافسهم في ذلك منافس، إلى أن فتح العرب مصر فكان ذلك بداية تحوّل، فإذا بالورق المادّيّ يكتسح أمامه البردى شيئًا فشيئًا، فما أن حلّ القرن العاشر الميلاديّ حتّى كانت صناعة الورق من نبات البردى قد بطلت وحلّ محلّها صناعة الورق من الخرق البالية ومن بعض الأعواد النباتيّة.

   وقد كان للعرب فضل نقل زراعة البردى وصناعته إلى أوروبا، فعندما فتحوا جزيرة "صقليّة" زرعوه بها، فكان ينمو هناك بكثرة في مستنقعات "بالرمو" ولا يزال يوجد حتّى الآن في هذه الجزيرة.

   وبفضل صناعة أوراق البردى من هذا النبات كانت "مصر القديمة" مغرمة بتأليف الكتب المتباينة.

   ومن أقدم أوراق البردى "كتاب الموتى" الذي كان يوضع مع الميت في تابوته وهو يحوي توسّلات ودعوات موجّهة إلى عدّة آلهة استعطافًا على الروح الصاعدة إليها، أو إلى الشمس حيث تستجلي هذه الروح إليها وهي خالصة من اللحم. ثمّ تأتي فيه فصولٌ أخرى باحثة فيما وراء المادّة فتوضّح أنّ الميت لا يؤتى النعيم الأبديّ إلّا إذا كان يعرف خفايا النفس والدين وسرّ طبيعة الآلهة.

   وقد احتوت أوراق البردى على كثير من الأدب الفرعونيّ، وقد أوضحت الأوراق البرديّة الفرعونيّة مدى تقدّم المصريين القدماء في علوم الصحّة والحساب والهندسة والفلك، وأوضحت لنا كيف عرفوا مساحة المربّع والمستطيل والمثلّث والدائرة.

   وها هي أوراق البردى تحتلّ مكانها لا في متاحف "القاهرة" فحسب بل في متاحف "لندن" و "برلين" و"باريس"، وقد دوّنت كلّ مظاهر النشاط الفكريّ والسياسيّ والعلمّي في عهد الفراعنة.

   والحضارة القديمة مُدينة في نموّها لورق البردى، كما أنّ الحضارة الحديثة مدينة في انتشارها للورق المادّيّ الذي نستخدمه في أيّامنا هذه لطبع صحفنا وكتبنا.      

 

- المداد: الحبر.1